فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإبراهيم}.
أي أترغب عنها إلى غيرها.
{لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ واهجرني مَلِيًّا} قال الحسن: يعني بالحجارة.
الضحاك: بالقول؛ أي لأشتمنك.
ابن عباس: لأضربنك.
وقيل: لأظهرن أمرك.
{واهجرني مَلِيًّا}.
قال ابن عباس: أي اعتزلني سالم العرض لا يصيبنَّك مني معرّة؛ واختاره الطبري، فقوله: {مليًا} على هذا حال من إبراهيم. وقال الحسن ومجاهد: {مليًا} دهرًا طويلًا؛ ومنه قول المهلهل:
فَتَصدَّعَتْ صُمُّ الجبالِ لموته ** وبَكَت عليه المُرْمِلاَتُ مليًّا

قال الكسائي: يقال هجرته مليًّا ومَلْوة ومُلْوة ومَلاَوة ومُلاَوة، فهو على هذا القول ظرف، وهو بمعنى الملاوة من الزمان، وهو الطويل منه.
قوله تعالى: {قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ} لم يعارضه إبراهيم عليه السلام بسوء الرد؛ لأنه لم يؤمر بقتاله على كفره.
والجمهور على أن المراد بسلامه المسالمة التي هي المتاركة لا التحية؛ قال الطبري: معناه أمنة مني لك.
وعلى هذا لا يبدأ الكافر بالسلام.
وقال النقاش: حليم خاطب سفيهًا؛ كما قال: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًا} [الفرقان: 63].
وقال بعضهم في معنى تسليمه: هو تحية مفارق؛ وجوز تحية الكافر وأن يبدأ بها.
قيل لابن عيينة: هل يجوز السلام على الكافر؟ قال: نعم؛ قال الله تعالى: {لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتقسطوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [الممتحنة: 8].
وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ} [الممتحنة: 4] الآية؛ وقال إبراهيم لأبيه: {سلام عليك}.
قلت: الأظهر من الآية ما قاله سفيان بن عيينة؛ وفي الباب حديثان صحيحان: روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه» خرجه البخاري ومسلم.
وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد: «أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارًا عليه إكاف تحته قطيفة فَدَكيّة، وأردف وراءه أسامة بن زيد؛ وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج، وذلك قبل وقعة بدر، حتى مر في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله بن أبيّ بن سلول، وفي المجلس عبد الله بن رَوَاحة، فلما غشيت المجلسَ عجاجةُ الدابة، خمر عبد الله بن أبيّ أنفه بردائه، ثم قال: لا تُغبِّروا علينا، فسلّم عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم...»؛ الحديث. فالأول يفيد ترك السلام عليهم ابتداء، لأن ذلك إكرام، والكافر ليس أهله. والحديث الثاني يجوز ذلك.
قال الطبري: ولا يعارَض ما رواه أسامة بحديث أبي هريرة، فإنه ليس في أحدهما خلاف للآخر؛ وذلك أن حديث أبي هريرة مخرجه العموم، وخبر أسامة يبين أن معناه الخصوص.
وقال النَّخَعي: إذا كانت لك حاجة عند يهودي أو نصراني فابدأه بالسلام؛ فبان بهذا أن حديث أبي هريرة «لا تبدؤوهم بالسلام» إذا كان لغير سبب يدعوكم إلى أن تبدؤوهم بالسلام، من قضاء ذمام أو حاجة تعرض لكم قِبلهم، أو حقّ صحبة أو جوار أو سفر.
قال الطبري: وقد روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب. وفعله ابن مسعود بدهقان صحبه في طريقه؛ قال علْقَمة: فقلت له يا أبا عبد الرحمن أليس يكره أن يبدؤوا بالسلام؟! قال: نعم؛ ولكن حقّ الصحبة. وكان أبو أسامة إذا انصرف إلى بيته لا يمر بمسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه؛ فقيل له في ذلك فقال: أمرنا أن نفشي السلام.
وسئل الأوزاعي عن مسلم مر بكافر فسلم عليه، فقال: إن سلمت فقد سلم الصالحون قبلك، وإن تركت فقد ترك الصالحون قبلك. وروي عن الحسن البصري أنه قال: إذا مررت بمجلس فيه مسلمون وكفار فسلم عليهم.
قلت: وقد احتج أهل المقالة الأولى بأن السلام الذي معناه التحية إنما خص به هذه الأمة؛ لحديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى أعطى أمتي ثلاثًا لم تعط أحدًا قبلهم السلام وهي تحية أهل الجنة» الحديث؛ ذكره الترمذي الحكيم؛ وقد مضى في الفاتحة بسنده.
وقد مضى الكلام في معنى قوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي}.
وارتفع السلام بالابتداء، وجاز ذلك مع نكرته لأنه نكرة مخصصة فقرنت المعرفة.
قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}: الحفي المبالغ في البرّ والإلطاف؛ يقال: حَفِي به وتَحفَّى إذا بَرَّه.
وقال الكسائي يقال: حَفِي بي حِفَاوة وحِفْوة.
وقال الفراء: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} أي عالمًا لطيفًا يجيبني إذا دعوته.
قوله تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ}: العزلة المفارقة وقد تقدّم في (الكهف) بيانها.
وقوله: {عسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} قيل: أراد بهذا الدعاء أن يهب الله تعالى له أهلًا وولدًا يتقوى بهم حتى لا يستوحش بالاعتزال عن قومه.
ولهذا قال: {فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} أي آنسنا وحشته بولد؛ عن ابن عباس وغيره.
وقيل: {عسى} يدل على أن العبد لا يقطع بأنه يبقى على المعرفة أم لا في المستقبل.
وقيل: دعا لأبيه بالهداية.
ف {عسى} شك لأنه كان لا يدري هل يستجاب له فيه أم لا؟ والأول أظهر.
وقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} أي أثنينا عليهم ثناء حسنًا؛ لأن جميع الملل تحسن الثناء عليهم.
واللسان يذكر ويؤنث؛ وقد تقدّم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قَال} أي أبوه {أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم} استفهم استفهام إنكار، والرغبة عن الشيء تركه عمدًا وآلهته أصنامه، وأغلظ له في هذا الإنكار وناداه باسمه ولم يقابل {يا أبت} بيا بني.
قال الزمخشري: وقدم الخبر على المبتدأ في قوله: {أراغب أنت عن آلهتي} لأنه كان أهم عنده وهو عنده أعني وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته، وإن آلهته ما ينبغي أن يرغب عنها أحد.
وفي هذا سلوان وثلج لصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه انتهى.
والمختار في إعراب {أراغب أنت} أن يكون راغب مبتدأ لأنه قد اعتمد على أداة الاستفهام، و{أنت} فاعل سد مسد الخبر، ويترجح هذا الإعراب على ما أعربه الزمخشري من كون {أراغب} خبرًا و{أنت} مبتدأ بوجهين:
أحدهما: أنه لا يكون فيه تقديم ولا تأخير إذ رتبة الخبر أن يتأخر عن المبتدأ.
والثاني: أن لا يكون فصل بين العامل الذي هو {أراغب} وبين معموله الذي هو {عن آلهتي} بما ليس بمعمول للعامل، لأن الخبر ليس هو عاملًا في المبتدأ بخلاف كون {أنت} فاعلًا فإن معمول {أراغب} فلم يفصل بين {أراغب} وبين {عن آلهتي} بأجنبي إنما فصل بمعمول له.
ولما أنكر عليه رغبته عن آلهته توعده مقسمًا على إنفاذ ما توعده به إن لم ينته ومتعلق {تنته} محذوف واحتمل أن يكون عن مخاطبتي بما خاطبتني به ودعوتني إليه، وأن يكون {لئن لم تنته} عن الرغبة عن آلهتي {لأرجمنك} جواب القسم المحذوف قبل {لئن}. قال الحسن: بالحجارة. وقيل: لأقتلنك.
وقال السدي والضحاك وابن جريج: لأشتمنك. قال الزمخشري: فإن قلت: علام عطف {واهجرني}؟ قلت: على معطوف عليه محذوف يدل عليه {لأرجمنك} أي فاحذرني {واهجرني} لأن {لأرجمنك} تهديد وتقريع انتهى.
وإنما احتاج إلى حذف ليناسب بين جملتي العطف والمعطوف عليه، وليس ذلك بلازم عند سيبويه بل يجوز عطف الجملة الخبرية على الجملة الإنشائية.
فقوله: {واهجرني} معطوف على قوله: {لئن لم تنته لأرجمنك} وكلاهما معمول للقول.
وانتصب {مليًا} على الظرف أي دهرًا طويلًا قاله الجمهور والحسن ومجاهد وغيرهما، ومنه الملوان وهما الليل والنهار والملاوة بتثليث حركة الميم الدهر الطويل من قولهم: أمليت لفلان في الأمر إذا أطلت له.
وقال الشاعر:
فعسنا بها من الشباب ملاوة ** فالحج آيات الرسول المحبب

وقال سيبويه: سير عليه مليّ من الدهر أي زمان طويل.
وقال ابن عباس وغيره: {مليًا} معناه سالمًا سوّيًا فهو حال من فاعل {واهجرني}.
قال ابن عطية: وتلخيص هذا أن يكون بمعنى قوله مستندًا بحالك غنيًا عني {مليًا} بالاكتفاء.
وقال السدي: معناه أبدًا.
ومنه قول مهلهل:
فتصدعت صم الجبال لموته ** وبكت عليه المرملات مليًا

وقال ابن جبير: دهرًا، وأصل الحرف المكث يقال: تمليت حينًا.
وقال الزمخشري: أو {مليًا} بالذهاب عني والهجران قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرخ فلان ملي بكذا إذا كان مطيقًا له مضطلعًا به انتهى.
{قال سلام عليك}. قرأ أبو البرهثيم: {سلامًا} بالنصب.
قال الجمهور: هذا بمعنى المسالمة لا بمعنى التحية، أي أمنة مني لك وهؤلاء لا يرون ابتداء الكافر بالسلام.
وقال النقاش حليم: خاطب سفيهًا كقوله: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا} وقيل: هي تحية مفارق، وجوز قائل هذا تحية الكافر وإن يبدأ بالسلام المشروع وهو مذهب سفيان بن عيينة مستدلًا بقوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم} الآية وبقوله: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم} الآية.
و{قال} إبراهيم لأبيه {سلام عليك} وما استدل به متأول، ومذهبهم محجوج بما ثبت في صحيح مسلم: «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام» ورفع {سلام} على الابتداء ونصبه على المصدر، أي سلمت سلامًا دعاء له بالسلامة على سبيل الاستمالة، ثم وعده بالاستغفار وذلك يكون بشرط حصول ما يمكن معه الاستغفار وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة، وهذا كما يرد الأمر والنهي على الكافر ولا يصح الامتثال إلاّ بشرط الإيمان.
ومعنى {سأستغفر لك} أدعو الله في هدايتك فيغفر لك بالإيمان ولا يتأول على إبراهيم عليه السلام أنه لم يعلم أن الله لا يغفر لكافر.
قال ابن عطية: ويجوز أن يكون إبراهيم عليه السلام أول نبيّ أوحي إليه أن الله لا يغفر لكافر لأن هذه الطريقة إنما طريقها السمع، وكانت هذه المقالة منه لأبيه قبل أن يوحى إليه، وذلك أنه إنما تبين له في أبيه أنه عدو لله بأحد وجهين: إما بموته على الكفر كما روي، وإما أن يوحي إليه الحتم عليه.
وقال الزمخشري: ولقائل أن يقول الذي يمنع من الاستغفار للكافر إنما هو السمع، فأما القضية العقلية فلا تأباه، فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع بناء على قضية العقل، والذي يدل على صحته قوله تعالى: {إلاّ قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك} فلو كان شارطًا للإيمان لم يكن مستنكرًا ومستثنى عما وجب فيه.
وقول من قال إنما استغفر له لأنه وعده أن يؤمن مستدلًا بقوله: {إلاّ عن موعدة وعدها إياه} فجعل الواعد آزر والموعود إبراهيم عليه السلام ليس بجيد لاعتقابه في هذه الآية الوعد بالاستغفار بعد ذلك القول الجافي من قوله: {لئن لم تنته} الآية.
فكيف يكون وعده بالإيمان؟ ولأن الواعد هو إبراهيم ويدل عليه قراءة حماد الراوية وعدها إياه.
والحفي المكرم المحتفل الكثير البر والألطاف، وتقدم شرحه لغة في قوله: {كأنك حفي عنها} وقال ابن عباس: رحيمًا.
وقال الكلبي: حليمًا.
وقال القتبي: بارًا.
وقال السدي: حفيك من يهمه أمرك، ولما كان في قوله: {لأرجمنك} فظاظة وقساوة قلب قابله بالدعاء له بالسلام والأمن ووعده بالاستغفار قضاء لحق الأبوة، وإن كان قد صدر منه إغلاظ.
ولما أمره بهجره الزمان الطويل أخبره بأنه يتمثل أمره ويعتزله وقومه ومعبوداتهم، فهاجر إلى الشام قيل أو إلى حران وكانوا بأرض كوثاء، وفي هجرته هذه تزوج سارة ولقي الجبار الذي أخدم سارة هاجر، والأظهر أن قوله: {وأدعو ربي} معناه وأعبد ربي كما جاء في الحديث: «الدعاء العبادة» لقوله: {فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله} ويجوز أن يراد الدعاء الذي حكاه الله في سورة الشعراء {رب هب لي حكمًا} إلى آخره، وعرض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم في قوله: {عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيًا} مع التواضع لله في كلمة {عسى} وما فيه من هضم النفس.